قرر زوجي أن يصحبني في رحلة عرف عنها مجازًا بأنها شهر العسل، لكنها لم تتجاوز بضعة أيام شملت السفر والانتقالات من مكان لآخر، توهمت أني سأعيش ليالٍ لا تمحى من الذاكرة، لكن خاب ظني، وبدأت قوة مشاعر الحب تتزعزع لتخطو نحو الهاوية، فرغ حبيب من بث مشاعره الحميمية ليغفو بعد لحظات متعللاً بإرهاق السفر في غرفتنا بالمنتجع السياحي، تركته يرتاح وظللت أراقبه في صمتٍ لساعاتٍ دون كللٍ أو ملل، ومع ذلك لم أحاول إيقاظه، اكتفيت بالتحديق الهائم به، فربما جسده منهك وبحاجة للراحة، كنت على وشك أن أغفو حينما تثاءب بصوتٍ شبه مسموع ليقول بعدها بنبرته الناعسة:.
-ألا تزالين مستيقظة؟
ابتسمت وأنا أجيبه:
-نعم، لم يكن بي رغبة للنوم
اعتدل في نومته على الفراش، مد يده ليتلمس طرف وجنتي وجانب عنقي ثم أزاح الغطاء عن جسده ليقول بتثاؤبٍ:
-سأغتسل ناردين، استعدي لنخرج سويًا
نظرت له مبتسمة:
-حسنًا.
تابعته عيناي وهو يلج إلى المرحاض لأنهض بعدها من رقدتي غير المريحة باحثة عما سأرتديه في تلك النزهة الترفيهية، وبعد وقت قليل، كان حبيب قد تأنق في ثيابه ليبدو مستعدا للذهاب على عكسي أنا التي استغرقت وقتا كباقي الفتيات في توفيق قطع الثياب مع بعضها ووضع مساحيق التجميل، بدا على عجالة من أمره فأردف قائلاً:
-سأنتظرك بالأسفل ريثما تنتهين
حركت رأسي بالإيجاب وأنا أرد:
-اتفقنا.
كنت بحاجة لإنهاء ارتداء ملابسي دون مقاطعة غير مجدية منه، تركني بالغرفة واتجه للخارج لأحاول قدر المستطاع أن أكمل الناقص في أسرع وقتٍ، خرجت باحثة عنه في الاستقبال التابع للمنتجع، لم أجده فتلفت حولي بقلقٍ متسائلة في نفسي:
-أين ذهب؟
اتصلت به على هاتفه المحمول لكن كان الخط مشغولاً، استدرت برأسي نحو الجانب حينما سمعت صوت ضحكته المألوفة، وجدته يقف عند الزاوية واضعًا الهاتف على أذنه ويدخن سيجارته باستمتاعٍ، اقتربت منه ملوحة له بيدي فأشار لي برأسه ثم أنهى المكالمة ليقول لي:
-لنجلس هنا ثم نذهب لتناول العشاء.
لم أبدِ اعتراضًا، جلست على الأريكة الشاغرة التي اتسعت لكلينا متوقعة أن يطوقني بذراعه لنتقارب أكثر، انتظرت، وانتظرت، وانتظرت، ولكن لا شيء، فقط هو محدقٌ بإمعانٍ في شاشة هاتفه وكأن من معه أهم مني في تلك اللحظة الخاصة، لم أرغب في أن أكون متطفلة واختلس النظرات نحو ما يتطلع إليه، زفرت بمللٍ عله ينتبه لضيقي، لاحظ حبيب انزعاجي فعلق مازحًا وكأنه يريد مشاركتي ما يتصفح:.
-انظري إلى تلك الصورة المضحكة وما كتب أسفلها
أحنيتُ رأسي على كتفه لأشعر بقربي منه، لم أكترث بأي صورة أو بأي تعليقٍ، كنت فقط مهتمة بإحساسي القريب منه لأمحو ما سيطر عليّ من مشاعر مزعوجة، تفاجأت به يزيح كتفه ليعتدل في جلسته مبعدًا رأسي عنه ليضيف قائلاً بجمودٍ غير معتادٍ منه:
-لحظة، سأتصل برفيقي، لقد هاتفني قبل ساعات وتناسيت الرد عليه
شعرت بالحرج رغم كون تصرفه تلقائيًا، تصنعت الابتسام قائلة له:
-تفضل.
نهض من جواري ليتحدث بضحكات مجللة مع رفيقه، ظللت باقية بمفردي أجوب بنظراتي على الجالسين حولي ثم أعود للتحديق به، استغرق ما يزيد عن ربع ساعة يتحدث معه بشغف واهتمام افتقدته منه، زفرت باستياءٍ مدعية النظر في هاتفي ريثما ينتهي، رفعت عيناي لأنظر عليه حينما هتف عاليًا:
-هيا ناردين.
كان وجهي عابسًا ولم يتطلع هو إليه، أسرعت في خطاي لألحق به وكدت أن أتعثر لأكثر من مرة، تساءلت بصدمةٍ بين جنبات نفسي، أين تلك اليد التي كانت تمتد للإمساك بي؟ اضطررت في الأخير أن أناديه:
– حبيب انتظرني، حذائي العالي لا يساعدني على الركض خلفك
أبطأ في خطواته ممازحًا:
-هذا خطؤك، كان عليكِ ارتداء المريح
رددت متسائلة بضيقٍ وقد احتدت نظراتي:
-وما العمل الآن؟
تنهد مضيفًا:
-لا تهتمي للأمر، لنكمل سيرنا.
توهمت أن يجعلني أتأبط ذراعه كنوعٍ من الاهتمام بي، وتأهبت لفعل ذلك لكن خابت توقعاتي ودس يديه في جيبه ليسير بمفرده، عبست تعابيري بالكامل لخيبة الأمل التي اعترتني، حاولت تجاوز الأمر لأستمتع بالعشاء والنزهة، مضى الوقت سريعًا مع مزاحه الساخر وحديثه الذي لا ينقطع عما فعله في رحلاته السابقة من مغامرات شيقة وددت في نفسي لو كنت طرفًا فيها، ثبطت كلماته المسترسلة وحماسه الواضح نزعتي المزعوجة منه، وغفرت له زلته تلك ملقية خلف ظهري أوهامي الزائفة، ويا ليتني ما فعلت!
انتهت عطلتنا القصيرة وحزنت كثيرًا لانقضائها، وعدني حبيب بتكرارها إن سنحت له الفرصة وتمكن من الحصول على إجازة من عمله، استقللنا الحافلة عائدين إلى مدينتنا، التصقت قدماه بقدمي، وشعرت بالسعادة من قربه لي، لم أمل للحظة وهو يعيد على مسامعي لحظات طفولته ومشاهد مراهقته العابثة، توقفت الحافلة عند المحطة الأخيرة ومعها انتهت تلك المتعة الخفية من قربنا الجميل، أدار رأسه في اتجاهي قائلاً بجدية:.
– ناردين سأشتري الطعام الجاهز لنا
وافقته الرأي فلا يوجد بالمنزل أي طعام نتناوله، ساعدته في حمل الأكياس البلاستيكية حتى يتمكن من دفع ثمن المشتريات، توقعت أن يحملها عني لكنه سار بمفرده واضعًا يديه في جيبي بنطاله الجينز، اغتظت من تصرفه الفظ فتوقفت عن السير لأهتف بتذمرٍ:
-لن أحملها كلها
التفت نحوي مخفضًا نظراته نحو الأكياس ثم ابتسم معقبًا:
-أعتذر، لم انتبه.
عاد ليحمل عني الأكياس وواصلنا سيرنا حتى بلغنا مفترق الطريق، تذكرت ما كان يفعله حينما نعبره، وتوقعت أن تشتبك أصابعه بأناملي لنهرول فيه سويًا، استعدت يدي للامتداد نحوه والإمساك بكفه لكنه خذلني حينما خطا مسرعًا ليعبر الطريق قبلي، تهدل كتفي بإحباطٍ وخزي وعكست نظراتي حزني الشديد، استمر حبيب على تلك الحالة المتجاهلة لي حتى وصلنا إلى المنزل، لم أعاتبه، ربما الأمر لا يستحق الجدال من أجله، لكني افتقدت ذلك الإحساس الذي ملأني ذات يومٍ بالاهتمام بأدق التفاصيل وأقلها.
لم أتوقف عن البكاء بعد أن أخبرني حبيب بتكليفه بمهام جديدة تتبع عمله الخاص والتي تتطلب السفر إلى خارج البلاد، ليس السبب فقط ابتعاده، وإنما غيابه لمدة قد تزيد عن الثلاثة أشهر ليعود في عطلة قصيرة ثم يتكرر الأمر من جديد لأشهر أخرى وهكذا، بالطبع لن أقف في طريق مستقبله المهني، لكني لا أزال عروسة جديدة لم تتمتع بعد مع زوجها، حاوطني بذراعيه ماسحًا على ظهري برفقٍ وهو يواسني:.
-لا تبكِ حبيبتي، ستمر الأيام سريعًا
انتحبت متسائلةٍ بحزنٍ جلي:
-كيف هذا؟ ألا يمكنك الرفض؟
رد بعد تنهيدة مطولة:
-الأمر صعب، أنا أشق طريقي ناردين، كيف أخبر المدير أن زوجتي ترفض سفري للخارج؟
اعترضت بنبرتي الباكية:
-ولكن…
قاطعني بحزمٍ:
– ناردين توقفي!
نظرت له ودمعاتي تنساب على وجنتي، احتضن وجهي بكفيه ماسحًا تلك العبرات مضيفًا بهدوءٍ وقد تحولت نبرته للين قليلاً:
-لا تقلقِ، سأهاتفك كل يوم، لن تشعري بغيابي!
ابتسم مزاحًا ليخفف من وطأة الأمر:
-لندعي أنها فترة خطبة جديدة كي نجدد عهود زواجنا
هكذا أقنعني حبيب ببساطة لاستسلم أمام حبي الجارف له، رفعت حدقتاي الباكيتان طالبة منه:
-أريد ما يذكرني بك
سألني مستفهمًا:
-تذكار؟!
حركت رأسي قائلة:
-نعم
ظلت ابتسامته التي تأسرني مرسومة على ثغره وهو يقول:
-اطلبي ما تريدين
تنهدت بعمقٍ قبل أن أضيف:
-زجاجة عطرك
بدا طلبي غريبًا بالنسبة له، رمقني بنظرة متعجبة متسائلاً:
-عطري؟
تابعت موضحة سبب رغبتي في الحصول عليها تحديدًا:
-أحب أن تبقى رائحتك المميزة عالقة في أنفي
رفع يده ليمررها في خصلات شعره، حك مؤخرة عنقه قائلاً بحرجٍ ملحوظ:
-للأسف انتهت الأخيرة التي بحوزتي، وكنت على وشك إلقائها في القمامة
كدت أن أصيب بالإحباط، لكن أضاء عقلي فجأة بفكرة بائسة، صحت وكأني أفكر بنبرة مسموعة:
-سأحتفظ بها مؤقتًا كي تكون لي السلوى في غيابك
هز كتفيه قائلاً بنفس الابتسامة الجذابة:.
-كما تشائين حبيبتي
وبلا وعيٍ مني احتضنته بقوة واضعة رأسي على صدره لتخترق دقات قلبه أذني وتزيد من حنيني وتلهفي، رددت بنشيجٍ:
-أوه! كم سأفتقدك حبيب
مسح على ظهري بنعومة مؤكدًا عن ثقة:
-ستمر الأيام
تمتمت بخفوتٍ مواسية نفسي:
-سأكتب لك رسالة
سألني مستوضحًا:
-أتقصدين من خلال البريد الإلكتروني؟
طالعته بعينين باكيتين وأنا أرد:
-لا، رسالة ورقية
ابتسم مرددًا بحماسٍ ظهر عليه:
-كالعشاق؟
أومأت باقتضابٍ:
-نعم.
داعب طرف أنفي بإصبعه قائلاً بنبرة مشجعة لي:
-وأنا سأنتظرها منك
صححت له بجدية:
-لا، بل ستقرأها حينما تعود إلى أحضاني من جديد
أمسك بطرف ذقني بإصبعيه ليتأمل صفحة وجهي بنظراته الممعنة، ضغط على شفتيه مرددًا:
-لقد زاد فضولي لأعرف فحواها
علقت عليه بغموضٍ لأثير اهتمامه:
-اعتبرها مكافأة مؤجلة
حافظ على ابتسامته البشوشة مضيفًا:
-اتفقنا، لنكن على عهدنا.
وسافر بعدها لأشعر بالخواء، والفراغ، والوحدة، تضاعفت همومي مع عدم وجود رفقاء لي، فقد كنت أميل للعزلة ولا أجيد صنع الصداقات مثل غيري من الفتيات، مرت الدقائق بطيئة للغاية، فماذا عن الساعات والأيام؟ كنت أحترقُ شوقًا إليه عشرات المرات في اليوم الواحد، توقعت أن ينفذ ما وعدني به، أن تعوضني مكالماته الهاتفية عن غيابه الذي أتعب قلبي وأهلك أعصابي، لم يمنحني سوى دقائق معدودة من وقته لأشبع بها توقي الشغوف إليه في كل يوم، بت أنتظر تلك الدقائق كالمدمن على مخدرٍ ما، بحثتُ عما يمكنه أن يعوض غيابي، حتى أني تنقلت بين صفحاته على مواقع التواصل المختلفة لأتابع خطواته في صمت، ما ألمني حقًا هو إهماله لي رغم حاجتي الماسة إليه، اختلقت له مئات الأعذار والحجج كي لا يحمل قلبي ضغينة نحوه، ومع ذلك دفعني تجاهله بقوةٍ نحو الهاوية من جديد.